جاسوس واحد يكفي عن ثلاثين الف جندي في المعركة .
" جاسوس واحد يكفي عن ثلاثين الف جندي في المعركة ، هذه العبارة قالها نابليون بونابرت .. وعملت بها اسرائيل
واتبعت طريقة ان الجاسوس الجندي الأول في بناء الدولة الصهيونية " .
حين كتب الروائي الشهير چورچ أورويل عام 1948 روايته الشهيرة الأخ الأكبر التي تصور نظاماً شمولياً يتجسس ويراقب ويرصد كل صغيرة وكبيرة تحدث في العالم .. هل كان يتصور أورويل أن مجرد فكرة في روايته من وحي التخيل هي حقيقة مجسدة على أرض الواقع؟!
من هو الجاسوس ؟ هل هو خائن أم بطل؟ ولماذا هو الجاسوس ؟ وكيف تم تجنيده .. وما الدور الذي لعبه ويلعبه عبر التاريخ ؟ وما هو الدور الذي لعبه في قيام دولة في حجم إسرائيل ؟ تلك الأسئلة حاول الإجابة عليها خالد محمد غازي في كتابه "الجاسوس .. طريق الخداع سري للغاية" والذي ينقسم إلى عشرة فصول .. حاول خلالها الكشف عن العديد من الإجابات لأسئلة طالما ألحت في أذهاننا كلما وصل إلى مسامعنا الكشف عن إحدى شبكات التجسس.
"عودة إلى التاريخ " تحت هذا العنوان .. حاول المؤلف أن يرجع بنا إلى البدايات التاريخية للجاسوسية ، بدءاً من المعنى اللغوي للكلمة والتي جاءت من كلمة "جس" أي وطأ .. وجس الخبر أي بحث عنه وتفحصه ، وفي تفسير القرطبي أن التجسس هو البحث عما يكتم عنك ، ويقول علماء اللغة أن التجسس نابع من الجس والجس هو اللمس باليد وموضعه المجسة أي يجسه جساً وأجتسه أي مسه ولمسه، أما تعريف الجاسوس في القانون الدولي العام فهو الشخص الذي يعمل في خفية أو تحت إدعاء كاذب في جمع أو محاولة جمع معلومات عن منطقة الأعمال الحربية لإحدى الدول المحاربة بقصد إيصال هذه المعلومات لدولة العدو، والجاسوسية في الاصطلاح القانوني هي العمل سراً وبإدعاء كاذب ليستولي شخص أو يحاول الاستيلاء على معلومات حيوية لفرصة توصيلها للأعداء .
فن فرعوني
ويؤكد المؤلف أنه لايوجد على وجد اليقين ما يشير إلى البادئ باستحداث أول نظام للجاسوسية في العالم . ويشير إلى الصيني "صن تسو" والذي كان أول من درس الجاسوسية كرياضة ذهنية وحلل هذه الظاهرة في عام 510 ق.م في حين تؤكد المصادر التاريخية أن التجسس فن فرعوني قديم حيث كان للمصريين القدماء نظام تجسس منذ خمسة آلاف عام وكانوا يعتبرونه فنا رفيعا ولونا من ألوان العلم الحربي يوظف ضد الأعداء وهو الأمر الذي يؤكده الأثريون من خلال النقوش الفرعونية ، كما أن سجلات قدماء المصريين قد حوت ما يفيد قيامهم بأعمال عظيمة في المخابرات قبل حادث طروادة بعدة قرون خلال حكم الأسرة الثانية عشر 3400-3600 ق.م
كما عرفت اليونان القديمة ما يسمي بالطابور الخامس الخاص وقد سار هذا الطابور من قبل السلطات الحاكمة اليونانية على قواعد ظلت تتبع في عالم الجاسوسية في القرن التاسع عشر كما حفلت ملحمة الألياذة لشاعر اليونان الكبير"هوميروس" بالكثير من أعمال الجواسيس.
وكما عرف الصينيون نظام الجاسوسية مبكراً كذلك فعلت الهند. فقد عرف لديها كتاب شفوي توارثته الأجيال منذ أمد بعيد يتضمن العديد من التقاليد المتبعة في إحضار المعلومات ورصد حركات الخصوم والأعداء وقد جاء، في كتب التراث الهندية أن الإله "براهما" قد أوصى أحد الحكماء بهذه المقولات: "أرسل جواسيسك بأسرع مما تتحرك قدماك ولاتدع نفسك تهلك لأمن الأقربين أو من الأجانب تجسس عليهم وأعرفهم"
أرض الميعاد
ويستعرض المؤلف أهمية الجاسوس ودوره في الديانات السماوية الثلاث مؤكداً أن فكر التجسس ما هو إلا انعكاس لفكرة الحرب ومفهومها لدي المتحاربين والحرب في الشريعة اليهودية كانت هدفاً مقدساً ونابعاً من مفهوم ديني بأنهم شعب الله المختار الذي وعدهم فيها بأرض الميعاد منذ خروج موسى عليه السلام بهم من أرض مصر بعد الاستعباد فأباحوا القتل والذبح واستعباد سكان هذه الأرض وأتيحت كافة الوسائل للوصول لهذا الهدف.. وبالتالي أتيحت كل الوسائل لمعرفة المعلومات، لذا فالجاسوس اليهودي لعب دوراً هاماً حتى أننا يمكن أن نعتبره مفتاح النصر للشعب اليهودي الذي يسخر كل إمكانياته في خدمة تنفيذ الشريعة اليهودية.
أما الدور الذي لعبه الجاسوس في الديانة المسيحية فيكاد يكون منعدماً فلم تكن معركة المسيح - عليه السلام - معركة أرضية أو مادية، فالحرب في المسيحية كانت ضد السلوكيات الخاطئة في الإنسان وغرس قيم المحبة والتسامح الديني بين بني البشر جميعا.. فلم يأت المسيح ليخوض حرباً أو ليصبح ملكا أو يكتسب أرضا.. فلا يوجد في نصوص الإنجيل نصوصاً تحض على الحرب وما يتبعها من وسائل كالتجسس مثلما وجد في النص التوراتي .
أما مفهوم التجسس في الفكر الإسلامي فيشير المؤلف إلى المفهوم الخاص للحرب الذي عبر عنه النص القرآني والذي أباح القتال لغرض أساسي وجوهري وهو حماية الدين والعقيدة والدفاع عن النفس ضد أي اعتداء.. والحرب بهذا المفهوم لابد أن تقوم على الخدعة، والجاسوسية ما هي إلا إحدى وسائل الخداع.. يتم اللجوء إليها لخدمة الهدف الأسمى وهو حماية العقيدة.. لذا فقد لعب الجاسوس دوراً كبيرا في حماية العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي بوجه عام.
جاسوس الإنترنت
لا يصلح أي إنسان لأن يكون جاسوسا.. ومهما بلغ من إمكانات وملكات خاصة لا تكفي بأي حال من الأحوال لأن يكون جاسوساً ناجحا فلابد لأي جاسوس من أدوات تساعده على إنجاز مهمته بسهولة وسرعة وفي نفس الوقت لاتعرضه للخطر، لذا فقد عرف الجاسوس وسائل متعددة حاول استغلالها وتسخيرها منذ فجر التاريخ وحتى عصر الإنترنت. هذا ما أراد المؤلف أن يوضحه لنا في الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان "الجاسوس من الحمامة إلى الإنترنت. مشيرا لانتباه الإنسان منذ فجر التاريخ لبعض الحيوانات والطيور التي تمتلك حواس خاصة فتم توظيفها لخدمة أغراض مختلفة سواء في السلم أو الحرب، فوقع اختياره الأول على الحمام لما يتمتع به من ذكاء، فاحتل الحمام الزاجل منزلة خاصة لدى الجاسوس البدائي منذ آلاف السنين لنقل رسائله، بل ولم يتوقف الأمر على استغلال الحمام فلقد انتبه الإنسان إلى إمكانات الطيور والحيوانات الأخرى بل وتطورت الأمور لاستخدامها في القتال كما استخدم طائر النورس للكشف عن الغواصات أثناء الحرب العالمية الأولى، كما عمل الروس على تدريب الكلاب لتفجير الدبابات.
وكان من الطبيعي أن تتطور تقنيات وأدوات الجاسوس مع القفزات التكنولوجية المتالية خاصة بعد اختراع الهاتف والشفرات والكاميرات الدقيقة وصولاً إلى عهد الكمبيوتر والإنترنت والرسائل الالكترونية، فأصبحت تلك التقنيات هي المعول الأساسي لتفوق الجاسوس دون أن يعرض نفسه للخطر ، وكلما كانت تلك التقنيات دقيقة وسرية كلما تفوق جهاز الاستخبارات وتأكد من صعوبة سقوط جواسيسه.
كما يشير المؤلف إلى نقطة هامة حين يتحول الإنسان ذاته إلى أداه للتجسس عن طريق التحكم في عقله وتفكيره والتأثير على جميع حواسه. مستخدمين بذلك العديد من الطرق منها أجهزة كشف الكذب والعقاقير المخدرة ، بالإضافة إلى التنويم المغناطيسي.
التراث اليهودي
ويفرد الكاتب خالد غازي فصلاً خاصا لمفهوم التجسس لدى الشخصية اليهودية بعنوان ستة آلاف سنة من التجسس، والذي يعد من العقائد الثابتة في فكر اليهودي بشكل عام ولعل هذا المفهوم الخاص هو السبب الأول في تفوق دولة بحجم دولة إسرائيل لتكون لها اليد العليا في السياسة الدولية مشيرا إلى أن التجسس لدى اليهودي يمارسه تعبيرا عن وجوده وإثباتاً لذاته ولعقيدته الثابتة بأنه يتفوق على سائر البشر أجمعين وأن الله فضله عليهم. ولذا فإن التجسس على "الأمميين" بالمصطلح اليهودي، هدف يحقق له هذا التفوق الذي يستمد جذوره من العقيدة الصهيونية من التراث اليهودي بدءا من التوراة والتلمود وبروتكولات حكماء صهيون.
ويستعرض المؤلف قصص الجاسوسية اليهودية بدءا من قصة العاهرة "راحاب" المعروفة بعاهرة أريحا والتي ساهمت في تقويض دعائم ملك الكنعانيين كذلك "دليلة" أول جاسوسة استخدمت محاسنها لإغواء "شمشون"، وغيرها من قصص الجاسوسية اليهودية التي حفلت التوارة باستعراض أدوارهم في دعم العقيدة اليهودية.
كما تناول الكتاب لدور الجاسوس في بناء الدولة اليهودية القديمة كذلك أوضح الدور الذي لعبه الجاسوس الحديث في بناء الدولة الصهيونية واحتلال فلسطين ، وذلك تحت عنوان "النكسة الكبرى لسبعة جيوش عربية" مؤكداً حقيقية عامة وهي أن التاريخ الحديث لليهود لم يختلف عن قديمهم. فقد انتبه اليهود مبكراً لأهمية أجهزة التجسس كأحد العناصر الضرورية للمشروع الصهيوني في فلسطين ومع نشأة الوكالة اليهودية ذلك التنظيم الذي أخذ على عاتقة مهمة تأسيس الدولة في فلسطين مهما كانت الصعوبات، ومن أجل هذا الهدف تجسس اليهود على العرب والأتراك والإنجليز، كما عملوا لصالح الإنجليز تارة وضد الأتراك والألمان تارة أخرى وانتشرت شبكات التجسس الصهيونية في مصر وسورية ولبنان والأردن وتركيا وفلسطين وغيرها لخدمة أهداف الوكالة اليهودية وما تفرع عنها من منظمات عسكرية أخذت على عاتقها مهمة تنفيذ أهداف المشروع الصهيوني بالقوة والاغتصاب. ولم تنس الوكالة اليهودية أن تكون لها شبكاتها العالمية للوصول للهدف الأكبر وأطماعهم، لذا فقد أنشأت الوكالة اليهودية فروعها في باريس وروما وبرلين ولندن وزيورخ وفينا وموسكو وغيرها.
ويشير المؤلف إلى الدور الذي لعبه "بن جوريون" في تأيسيس دولة إسرائيل والسبب في اعتبار اليهود له بأنه مؤسس الدولة الإسرائيلية وذلك حين تولى منصب رئاسة الوكالة اليهودية والتطوير الذي قام به حيث قسمها إلى ثلاثة أقسام، الأول وهو القسم العامل في المجال العربي والذي اختص بالقضايا التجسسية المتعلقة بأمور فلسطين خاصة والمواطنين العرب عامة، أما القسم السياسي فقد كانت مهمتة جمع المعلومات السياسية في المجالين الداخلي والدولي، أما القسم الثالث فهو القسم العسكري والذي أوجده للقيام بأعمال التجسس على البريطانيين وعلى اليهود الشرقيين والعرب. وقد عملت الوكالة اليهودية بأقسامها الثلاث على ترسيخ أقدام اليهود في فلسطين.
ويشير المؤلف إلى الدور الذي لعبته الوكالة اليهودية أثناء الحرب العالمية الثانية ووقوفه بجانب الحلفاء والدور الذي قامت به بعد انتهاء الحرب والذي ارتكز على مهمتين أساسيتين هما تأمين قيام الدولة اليهودية وجلب اليهود من خارج فلسطين وتهريب الأسلحة، والمهمة الثانية هي القيام بعمليات إرهابية ضد العرب وضد البريطانيين داخل البلاد.
منظمات سرية
وبمزيد من التفصيل يستعرض المؤلف تحت عنوان قبل قيام دولة إسرائيل دور المخابرات الصهيونية والذي يمكن تقسيمها من خلال خمس مراحل بداية من القرن العشرين، المرحلة الأولى وهي التي كانت تعبر عن علاقة المخابرات الصهيونية مع القوات البريطانية وما قدمته من عون وتمهيد لغزو الحلفاء لفلسطين وإسقاط الأمبراطورية العثمانية، وقد أنشئت منظمة "بيلو" السرية عام 1954 من مجموعة من المهاجرين اليهود من أوربا الشرقية بهدف إمداد بريطانيا بالمعلومات عن أوضاع السلطات العثمانية ونشاط الفلسطينين إلا أن هذه المحاولة فشلت عندما اكتشفت السلطات العثمانية هذه المنظمة في عام 1907 .
أما المرحلة الثانية وهي التي كانت قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى بعد إنشاء منظمة سرية باسم "نيلي" والتي أقامت اتصالاً مع المخابرات البريطانية في المنطقة ونشر شبكات تجسسها في مختلف أنحاء فلسطين وساهمت مساهمة فعالة في حسم معركة جنوب فلسطين لصالح الحلفاء عن طريق المعلومات التي زودتهم بها حول استعدادات الجيش العثماني في غزوة بئر سبع، إلا أن السلطات العثمانية اكتشفت أمرها وقامت بتصفيتها عام 1917 .